المنهج العلمي

عندما نلاحظ كيف يتوصل العلماء لاكتشافاتهم يتبيَّن لنا نمط معين يستخدمه العلماء للوصول لتك الاكتشافات. على مدار تاريخ العلم ناقش الفلاسفة والعلماء منهجية الوصول إلى الحقيقة العلمية، وكانت نتيجة هذا النقاش الحاد هي المنهج العلمي. كل حضارات البشر أضافت على هذا النقاش، من الفراعنة إلى ارسطو ثم من ابن الهيثم إلى نيوتن. في برمجيات الحاسب، تزداد الثقة بالبرنامج بمرور الوقت بسبب أن مطوري البرنامج استطاعوا اكتشاف معظم الأخطاء والمشاكل وايجاد الحلول لها. وبالمثل، أستطاع العلماء والفلاسفة على مر التاريخ اكتشاف معظم الأخطاء التي يقع بها عقل الإنسان في بحثه عن الحقيقة ثم صقلوا منهج، باستخدامه نستطيع الوصول إلى الحقيقة بدون أي تحيز أو وقوع في الأخطاء.

دعني أشرح هذا المنهج باستخدام التنجيم والأبراج كمثال لخطواته. يجب أن لا نميل إلى نتيجة في تحققنا من أمر ما، فإذا أردنا أن نتحقق من صحة التنجيم علمياً يجب أن نأخذ بعين الاعتبار احتمال كونه صحيح أو كونه خاطئ. الاعتقاد بأن أمراً ما خاطئ ثم محاولة إثبات خطأه يجعلنا منحازين في اختباراتنا ويعرضنا إلى الانحياز التأكيدي.

الخطوة الأولى في هذا المنهج هي الملاحظة، نيوتن لاحظ سقوط التفاحة فأكتشف الجاذبية وقوانين الحركة الثلاثة. في تحققنا من التنجيم، الملاحظة هي التعرف على ادعائاته وقوانينه وطرقه. التنجيم يقسِّم الأشخاص إلى أبراج تدعي بأنها تفسر شخصية الفرد وتتنبأ بمستقبله بناءً على موقع الأجرام السماوية، الشمس والقمر وكواكب أخرى، وقت ولادته. فبرج الثور مثلاً يدعي أن مواليده يمتلكون حس موسيقي أكثر من مواليد الأبراج الأخرى، وأنهم الأفضل في رياضة رفع الأثقال والجري من غيرهم.

الخطوة الثانية هي تكوين فرضية قابلة للنفي تفسر هذه الملاحظة. المنهج العلمي لا يهتم إلا بالفرضيات القابلة للنفي؛ فبسبب مشكلة الاستقراء لا يمكننا أن نثبت وبشكل قطعي وجود ظاهرة من الأدلة الداعمة لها، لذلك يجب علينا البحث عن الأدلة التي تنفي تلك الظاهرة1. عندما نحاول إثبات أن كل طيور الإوز لونها أبيض، لن نستطيع أن نثبت وبقطيعة أنها كلها بيضاء مهما كان عدد الطيور البيضاء التي رأيناها، ولكن نستطيع أن نثبت عدم صحة هذه الفرضية عند ملاحظتنا لطائر أوز أسود واحد. في التنجيم نفترض أن مواليد برج الثور أفضل من غيرهم في الرياضية، وهذا الافتراض قابل للنفي.

الخطوة الثالثة هي توقع نتائج هذه الفرضية. نتوقع لو كان مواليد برج الثور أفضل في الرياضة من غيرهم، أن عددهم في قائمة أفضل ممارسي الرياضة سيكون أعلى من المتوسط.

الخطوة الرابعة هي الاختبار. يزداد احتمال كون الفرضية صحيحة إذا طابقت نتائج الاختبار النتائج المتوقعة، وتكون غير صحيحة عند عدم التطابق. توقعنا أن مواليد برج الثور سيكون عددهم أكثر من المتوسط ولذلك قمت بجلب تواريخ ميلاد كل أصحاب الميداليات الأولمبية في ألعاب القوى ثم قسمتهم على تواريخ الأبراج. هذه هي النتيجة2:

يمكنك ملاحظة أن مواليد برج الثور ليسوا أفضل من غيرهم، ولذلك نستنتج أن هذه الفرضية خاطئة. مع ذلك لا نستطيع استنتاج أن التنجيم خاطئ بسبب عدم صحة هذه الفرضية؛ ربما كان هناك بعض الصحة فيه ولنتأكد من ذلك يجب أن نطبق المنهج على أكثر من إدعاء ليزداد احتمال عدم صحته.

لاحظ أيضاً أن مواليد برج الثور في الرسم البياني هم أقل من حصل على الميداليات وأن مواليد برج الدلو الأكثر حصولاً عليها، استنتاج أن مواليد برج الثور الأسوأ في ممارسة الرياضة وأن مواليد برج الدلو الأفضل يوقعنا في خطأ منطقي شرحته في مقدمة المنطق (البحث عن معطيات تدعم استنتاج نريده). أيضاً لا نستطيع تبرير ملاحظة أن مواليد الثور هم الأسوأ أو أن مواليد برج الدلو هم الأفضل، أتت لنا هذه الفكرة بعد رؤيتنا للرسم البياني وهي على الأرجح صدفة كما هو الحال في كون مواليد برج الثور الأسوأ في هذا الرسم، ولكن التنجيم يدعي بأنهم هم الأفضل واستنتجنا عدم صحة هذا الادعاء.

ينشر العلماء اكتشافاتهم لعلماء آخرين ليتحققوا منها ويعيدوا تطبيق التجربة مرة أخرى لتفادي أي تحيز في الاكتشاف. عند التحقق من صحة عدد من الملاحظات التي تفسر فئة من الظواهر تتحول هذه النتائج إلى نظرية علمية. فالنظرية العلمية إذاً ليست إدعاء لم يتم التحقق منه كما هو شائع، فعندما أقول نظرية التطور3 أعني تلك الأدلة المبنية على ملاحظات تم التأكد من صحتها والتي تكون أقرب تفسير لظاهرة معينة. ولا يتم إثبات عدم صحة نظرية علمية بإثبات عدم صحة دليل واحد، هذا فقط يقلل من احتمال صحتها.

هناك تفاصيل كثيرة لكل خطوة في هذا المنهج والتي تحتاج إلى كتاب لشرحها، لذلك ألح عليك أن تبحث وتتعمق في هذا الموضوع. فكما توجد أدوات تساعد المعاقين على التغلب على إعاقاتهم، فالمنهج العلمي هو أداتنا للتغلب على إعاقاتنا في البحث عن الحقيقة.

  1. مشكلة الاستقراء تستحق مقالة خاصة بها ولا أريد الانحراف عن الموضوع والتكلم عنها بعمق، لذلك أكتفي بشرح قصير لها مع تقديم رابط المقالة على ويكيبيديا. 

  2. لاحظ أن الرسم البياني يتبع المقياس اللوغارتمي، بمعنى أن الأعداد التي بين ٠ إلى ١٧٠ تبدوا صغيرة لأننا لا نهتم بها، نهتم بالفرق الواقع بين الأعداد ١٨٠ و ٢٢٠. 

  3. اقرأ سلسلة المقالات الرائعة عن التطور لجهاد العمار

كُتب في 06/02/2013