الذكريات – الجزء الثاني

تكلمنا في المقال السابق عن ارتباط الدماغ بالذكريات، في هذا المقال سنتكلم عن الذكريات نفسها وسهولة تحريفها.

يكتب عالم النفس دانيل شاكتر «الذكرى تشبه أحجية الصورة المقطعة التي تتكون من عدة قطع لتشكل – إذا رُكبت بشكل صحيح – الصورة الكبيرة،» فمن الطبيعي للشخص أن «يركب قطع الذكريات والمشاعر معاً لتشكل قصة مترابطة». استرجاع الذكريات هي عملية ابتكارية، نعتقد أننا نسترجع الذكرى كما حدثت، ولكننا في الحقيقة نعيد إنشائها من عدة أجزاء. وبغض النظر عن تصورنا عنها إلا أنها مرنة، متغيرة، متداخلة، سهلة التبديل والفقدان.

الذكريات بطبيعتها تتلاشى مع الوقت، فكلما مضى الزمن على عدم تذكر ذكرى معينة كلما ازداد احتمال تحريفها أو فقدانها. ربما هذا هو السبب الرئيسي لنسياننا معظم ذكريات الطفولة؛ فمن النادر أن يتذكر الأطفال أحداث ما قبل السنة الثالثة لعدم امتلاكهم قدرة استرجاع الذكريات أو مشاركتها، مما يساعد على تلاشي هذه الذكريات واختفائها. حتى تكرار الاسترجاع والمشاركة لا يضمن بقاء الذكرى على شكلها الأصلي؛ فعندما نسترجع الذكرى نركز على جوانب ونهمل جوانب أخرى، وتدريجياً تحل هذه الذكرى المعدلة مكان الذكرى الأصلية. لا يمكن لعملية استرجاع أن تكون مثل العملية السابقة، فكلما استرجعنا الذكرى كلما زاد تشويهها. عالم النفس فريدرك بارليت هو أول من وضح هذه النقطة في أحد كتبه «بعض المعتقدات المنتشرة يجب أن تنبذ كلياً، وأهمها هو الاعتقاد بأن استرجاع الذكريات هو إثارة لأحداث ثابتة غير متغيرة». على العكس، يعتقد أن الاسترجاع هو «إعادة الإنشاء بناءاً على شعورنا وموقفنا تجاه جميع تجاربنا السابقة».

عادةً ما تتلوث الذكريات بالمعلومات الجديدة المتكسبة بعد حصول الحدث، معلومات اُكتسبت من إيحاءات أو حقائق ثم دُمجت من غير أن نشعر مع الذكريات الأصلية. تُكوّن هذه المعلومات والذكريات قصة كاملة لا يمكن فصلها إلى مكوناتها الحقيقية وغير الحقيقية. في كتابها شرحت العالمة إليزبث لوفوس تجربة قامت بها: يُعرض على الخاضعون لهذه التجربة مشهد عن سرقة لبنك، وبعدها يُعرض الموجز الأخبار الذي يتحدث عن السرقة بتفاصيل خاطئة. كثير من الخاضعون دمج هذه التفاصيل الخاطئة مع ذكرياتهم عن المشهد ورفضوا بقوة احتمال كونهم مخطئين. قامت العالمة بمئات التجارب المشابهة على آلاف الأشخاص موضحتاً أن المعلومات المكتسبة بعد الحدث تؤثر على الذكريات.

تؤثر المشاعر على الذكريات عند حدوثها أو استرجاعها. فما نشعر به عندما نسترجع ذكرى قد يعيد تشكيلها ومزجها بمشاعرنا الحالية حتى وإن لم تكن هذه المشاعر مرتبطة بالذكرى الأصلية. قوة المشاعر المصاحبة للذكريات لا يجعل الذكرى صحيحة، بل يجعلها تبدو لنا بأنها صحيحة. يُعتقد بأن الذكريات المصاحبة لمشاعر حادة، مثل فقدان شخص عزيز أو حدث قومي كتفجير مركز التجارة العالمي، أكثر دقة وصحة من الذكريات الأخرى، ولكن في الحقيقة قوة المشاعر لهذه الذكريات تزيد من ثقتنا بها. بعد انفجار المركبة الفضائية شالنجر بيوم سأل عالم النفس أولريك نيسير طلابه بأن يجيبوا على استفسار يتضمن أسئلة عن الحادثة، مثل أين كان الطالب في وقت الحادثة، كيف سمع بالخبر، من أخبره، وعلى هذا النحو. بعد ثلاث سنوات قدم لهم نفس الاستفسار ووجد أن ٢٥٪ منهم أخطئوا بكل التفاصيل المهمة. لم يتذكر الحادثة بشكل صحيح إلا ١٠٪ من الطلاب! علاوة على ذلك، اكتشف أن الثقة بالذكرى لا ترتبط بصحتها؛ ثقة من تذكر الحادثة بشكل خاطئ من الطلاب لم تتدنى بل كانت نفس ثقة من تذكر الحادثة بشكل صحيح.

نستدل من هذه التجارب أن الذكريات ليست كشريط يسجل الأحداث سابقة، بل هي إعادة إنشاء ماضي مصفى ومرشح. تُسجَّل عدة حقائق ثم يضاف عليها التفاصيل التي نلاحظها ونريدها. مفيدةُُ لنا في معظم الحالات ولكنها أكثر مرونة من ما نعتقد. في أغلب الأحيان، الذكريات لا تصنع القصص بل القصص تصنع الذكريات.

كُتب في 28/01/2013