الذكريات – الجزء الأول
بدون الذكريات لا يمكننا أن نقوم بمتطلبات الحياة اليومية؛ بدونها لا نستطيع أن نتعلم، نخطط، نحب، نتكلم، نُسمي أنفسنا إنسان. نستخدم التجارب السابقة عندما تصادفنا مشكلة، نستخدم الذكريات لتفادي الأضرار، نستخدم الذكريات لنفرق بين الصديق والعدو، نستخدم الذكريات في محاكمنا لنشهد بذنب المتهم أو براءته.
حجم اعتمادنا على الذكريات لا يمكن وصفه، ولكن لنقف لحظة ونتساءل عن دقة الذكريات. يسهل علينا تشبيه العقل بذاكرة الحاسب الآلي؛ فالعقل يحفظ كل مدخلات الحواس الخمس ويسترجعها لاحقاً عند الحاجة. مثالياً هذا التشبيه صحيح، وقد أستخدمه لشرح كيفية عمل الذكريات لمن لا يملك هذه القدرة، لكن في التطبيق هذا التشبيه خاطئ في كلا العمليتين، الحفظ والاسترجاع.
لنبدأ من العين، فهناك منطقة عمياء في العين تقع في نقطة تلاقي العصب البصري (ناقل الإشارات البصرية إلى الدماغ) مع شبكية العين. قد تعتقد بصغر حجم هذه المنطقة العمياء لذلك لا تلاحظها، ولكنها تمثل تقريباً ٢٪ من كل ما تراه العين. أنظر إلى هذه الصورة:
أغلق عينك اليسار وركز نظرك على علامة الزائد ولاحظ الدائرة (بدون تركيز النظر عليها)، ثم اقترب إلى الشاشة حتى تختفي الدائرة. لا نلاحظ هذه المنطقة بسبب امتلاكنا لعينين، فبإمكان العين اليمنى رؤية ما لا تستطيع العين اليسرى رؤيته. ولكن لحظة، عندما تختفي الدائرة في الصورة السابقة نجد بأنها اُستبدلت باللون الأبيض (والاستبدال ليس خاص باللون الأبيض فقط، تجد هنا نفس الاختبار ولكن بخلفية سوداء)، مما يعني أن العقل، مثل برامج الرسومات لدى الحاسب الآلي، ينسخ ويُلصق ما حول هذه النقطة. أو بمعنى آخر، عقولنا تخدعنا.
قد تعتقد بمقدرة عقولنا ملاحظة كل معلومات الحواس الخمس، وهذا أيضاً خاطئ، فهناك دراسات عديدة بينت لنا محدودية قدرتنا على معالجة المعلومات، فلا نستطيع إنجاز أكثر من مهمة بنفس الوقت. شاهد هذا المقطع، أو حاول حساب عدد مرات تمرير الكرة في هذا المقطع.
كما يملأ العقل المناطق العمياء في البصر بغير إدراكنا، أيضاً يملأ المناطق العمياء في الذكريات. كم من القصص التي يرويها أصدقائنا أو آبائنا عنا والتي لا نتذكر منها شيئاً، وكأنها حُذفت من ذكرياتنا، أو نتذكر حدوثها بشكل مختلف كلياً. ومع ذلك، نستطيع أن نتذكر حياتنا كأنها قطعة متواصلة، نعرف من نحن، نعرف لماذا شخصياتنا بهذا الشكل، نستطيع أن نرى الصورة الكبرى لحياتنا مع افتقادنا لبعض الأجزاء، ولكن هذه صورة كاذبة، اختلقتها أعقلنا لتعطينا حس التواصل.
يجب التطرق إلى عمليات الجراحة لنفهم كيف تخدعنا عقولنا، ففي بعض حالات الصرع الشديدة يجب على المريض أن يخضع إلى عملية جراحية لقطع جسر الأعصاب الذي يربط نصفي الدماغ، هذا الجسر ليس هو الرابط الوحيد بين النصفين، ولكن هو الأكبر والأكثر نشاطاً.المريض الذي خضع لهذه العملية قد يبدو طبيعياً من الخارج، فيمكنه استئناف حياته وعمله والقيام بدوره في المجتمع كأي شخص آخر، ولفترة ساد الاعتقاد بعدم اعتماد وظائف العقل على هذا الجسر، ولكن عندما أُجريت الدراسات على هؤلاء المرضى اتضحت الاختلافات.
لنتعرف على تركيبة الدماغ أولاً، الدماغ منقسم إلى نصفين وبرغم اشتراكهما في وظائف عدة، إلا أن هناك وظائف معينة لا يقوم بها إلا واحد منهما. فالجزء الأيسر يؤدي وظيفة الكلام مثلاً، وأيضاً يتحكم بالجزء الأيمن من جسم الإنسان، مثل اليد والساق والإحساس ومجال الرؤية الأيمن (لا تخلط مجال الرؤية مع العين)، والمثل للنصف الأيمن للدماغ مع النصف الأيسر للجسم. في الشخص الطبيعي، يتم تبادل المعلومات بين نصفي الدماغ بواسطة جسر الأعصاب.
أُجريت الدراسة كالآتي، يُطلب من المريض بأن يجلس أمام شاشة وتركيز بصره على نقطة في منتصف الشاشة. تظهر صور وكلمات لوهلة قصيرة إما في الجزء الأيسر أو الأيمن من مجال نظر المريض، بعدها يُسأل المريض عن ما رآه أو يطلب منه برسمه. عندما تظهر صورة شجرة، مثلاً، في الجزء الأيمن في مجال رؤية المريض ويُسل عن ما رأى، يجيب بأنه رأى شجرة. ولكن تبدأ الغرابة عندما تظهر الشجرة في الجزء الأيسر لمجال رؤيته ويجيب بأنه لم يرى شيئاً، وعندما يُطلب منه برسم ما رآه بيده اليسرى يرسم شجرة. مما يشير إلى وجود اختلاف بين معلومات كل من نصفي الدماغ، وكأن المريض يملك عقلين مختلفين؛ فلو عرضت له صورتين مختلفتين وكانت إحداهما في مجال الرؤية الأيمن والأخرى في الأيسر، وطلبت من المريض بوصف ورسم ما رآه لوجدت إجابتين مختلفتين تماماً!
الأغرب من ذلك هو عندما يُسأل المريض عن سبب رسمه لهذا الشكل. النصف الأيسر من الدماغ (المسئول عن الكلام) لا يدري لماذا، ولكن يبدأ المريض باختلاق تفسيرات لسبب رسمه لهذا الشكل مع الإيمان التام بمصداقية هذه التفسيرات. عُرض على أحد المرضى مقطع يحتوي على مشاهد عنف في مجال بصره الأيسر، جاوب المريض بأنه يشعر بالقلق والاضطراب، وألقى اللوم على طريقة تصميم الغرفة بعد سؤاله عن سبب قلقه. من المهم فهم أن المريض لم يكذب في تفسيراته، فهو فعلاً يعتقد بأن هذه التفسيرات هي سبب أفعاله.
هذه الظاهرة لا تحدث فقط لمن لا يملك جسر الأعصاب، تحدث أيضاً في بعض حالات اضطراب الدماغ الشديدة، مصابي متلازمة كورساكوف يعانون من فقدانهم للذكريات الحديثة ولكن يستطيعون تذكر ماضيهم، يختلقون قصص لتستبدل ذكرياتهم الحديثة ويصدقونها، فلو سألت أحد المصابين أين كان في الأيام الماضية سيجيب بأنه كان يعمل في المستشفى، ولكن في الحقيقة هو مريض بالمستشفى. مصابي مرض عَمَهُ العاهة يعانون من شلل ولكن لا يعترفون بهذا الشلل، فلو طُلب من مريض مصاب بشلل في يده بتحريكها، يجيب بأنه لا يريد تحريكها لأنه يعاني من ألم في كتفه.
تذكر بأن أدمغة هؤلاء المرضى هي نفس أدمغتنا، ولتعطل جزء معين من أدمغتهم تضخمت لديهم هذه الأعراض. لكنها أيضاً تحدث لنا بشكل أصغر وأصعب للملاحظة بين حين وآخر. نميل إلى اختلاق قصص خيالية لتفسر ما نفعله، دائماً نفسر لأنفسنا دوافع أعمالنا، ونختلق هذه التفسيرات عند عدم امتلاكنا للإجابة. مع مرور الوقت تصبح هذه التفسيرات مفهومنا عن أنفسنا، تصبح شخصياتنا، تصبح نحن.