الانحياز التأكيدي

عندما تقرر شراء سيارة من نوع معين تبدأ بملاحظتها في الشوارع بكثرة، عندما تكون زوجتك حامل تبدأ بمشاهدة الأطفال في كل مكان، عند شرائك لهاتف جديد تبدأ بملاحظة من يملك مثل هذا الهاتف. تسمى هذه الظاهرة بالخداع التكراري، وهذه الظاهرة ليست مؤذية بحد ذاتها، ولكن عندما تعتقد أن سببها آخر وليست مجرد ميل عقولنا إلى ملاحظة الأشياء التي نهتم بها، عندها تتعرض للانحياز التأكيدي.

الموسوعة الحرة تعرّف الانحياز التأكيدي بأنه ميل الشخص إلى تفضيل المعلومات التي تؤيد معتقداته أو افتراضاته. كلما ازدادت المعلومات التي تؤيد معتقد الشخص كلما ازداد تمسك الشخص بهذا المعتقد، فبعض المعتقدات قد تصل لدرجة كونها جزء من شخصيته ولذلك يبتعد عن أي معلومات تخالف هذا المعتقد، فلا يستطيع هذا الشخص أن يتخلص من هذا المعتقد بدون أي أضرار لشخصيته.

يسهل علينا قبول المعلومات التي تؤيد رأينا فنصيغ أسئلتنا لتؤيد معتقداتنا، فعند محاولتنا لمعرفة ما إذا كان الرقم ٣ زوجي نختار السؤال «هل الرقم ٣ زوجي» ولا نختار السؤال «هل الرقم ٣ فردي» مع أن جواب كلا السؤالين هو نفسه. يطلق على السؤال الأول بالاختبار الإيجابي والثاني بالاختبار السلبي، فالهدف من الاختبار الإيجابي هو البحث عن ما يثبت افتراضنا ولكن في الاختبار السلبي نبحث عن ما ينفي افتراضنا.

أمور الحياة ليست بسهولة معرفة ما إذا كان الرقم ٣ فردي أم زوجي، فهي معقدة وفيها آراء متناقضة، فعندما نصيغ سؤالنا كاختبار سلبي نبحث عن كل الإجابات التي تنفي سؤالنا وهذا ما يفعله العلماء في اختباراتهم الصارمة، ولكن عند صياغتنا لسؤالنا ليكون اختبار إيجابي نكتفي بإيجاد إجابة واحد تدعم هذا السؤال وإن لم نجدها سنبحث بشكل أعمق حتى نجد هذه الإجابة وفي النهاية سنجدها.

من الطرق المشهورة لتدريس الانحياز التأكيدي هو عرض الأعداد ٢، ٤، ٦ ومن ثم يُسأل الطلاب، هل تستطيع إيجاد نمط لهذه الأعداد (نمط من خلاله نستطيع أن نتنبأ بالأعداد الأخرى في هذه السلسلة)؟ للتأكُد من أجوبتهم يجب عليهم تقديم ثلاثة أعداد في السلسلة ومن ثم سؤال المدرس ما إذا كانت هذه الأعداد تنتمي للسلسلة، ويجيب المدرس بنعم أو بلا. معظم الأعداد التي قدمها الطلاب تتضمن الشكل ١٠، ١٢، ١٤ أو ٢٢، ٢٤، ٢٦ ويجيب الأستاذ بنعم على كل هذه الأسئلة، وعند تقديم الإجابات معظم الطلاب فشل في كشف هذا النمط.

لاكتشاف النمط كل ما على الطالب أن يسأل هل الأعداد ٢، ٢، ٢ أو ٩، ٨، ٧ من السلسلة؟ وسوف يجيب الأستاذ بأنها لا تنتمي إلى السلسلة. بعد عدد من الأسئلة التي تناقض ما يعتقده الطالب بأنه نمط السلسلة سوف يكتشف النمط بأنها أعداد متصاعدة والفرق بينهما هو اثنان.

تبين هذه الطريقة بأننا نكون افتراضاتنا ومن ثم نحاول أن نثبت صحتها بدلاً من أن نثبت خطأها. تبين أيضاً الفرق بين الاختبار الإيجابي والاختبار السلبي، فمعظم الاختبارات الإيجابية لا تعطينا معلومات جديدة عن ما نريد أن نكتشفه، ولكن الاختبار السلبي يقدم لنا معلومات جديدة تزيل الاحتمالات واحداً تلو آخر حتى لا يتبقى إلا احتمال واحد.

في دراسة لجامعة مينيسوتا عام ١٩٧٩ قام عالِمين بتقديم نبذة عن حياة امرأة قامت بأعمال إنطوائية وأعمال أخرى منفتحة لمجموعة من الناس، ثم طُلب منهم أن ينصرفوا ويعودوا بعد أيام، عندما عادوا قسّموهم إلى مجموعتين ثم سُئلوا عن الوظيفة التي تناسب هذه المرأة، ولكن سألوا المجموعة الأولى هل تناسبها وظيفة أمين مكتبة (وظيفة بالعادة إنطوائية لا تحتاج إلى الاحتكاك بالناس) وسألوا المجموعة الثانية هل تناسبها وظيفة بائع عقار (وظيفة تحتاج إلى الكثير من الانفتاح والاحتكاك بالناس) –لاحظ عدم سؤال كلا المجموعتين عن الوظيفة الأخرى–. تذكر أعضاء مجموعة أمين المكتبة أعمال المرأة الإنطوائية ولذلك قرروا بأن هذه الوظيفة مناسبة لها، وفي مجموعة بائع العقار تذكر أعضائها أعمالها المنفتحة وقرروا أن وظيفة بائع عقار تناسبها. عند سؤال كلا المجموعتين ما إذا كانت الوظيفة الأخرى أيضاً تناسبها، تمسكوا برأيهم وقالوا أن الوظيفة الأخرى لا تناسبها.

تشير الدراسة إلى أن حتى الذكريات تتعرض للانحياز التأكيدي، فالشخص يتذكر ما كان يؤيد رأيه وينسى ما كان يناقضه، فحتى لو درسنا موضوع ما بحيادية تامة قد لا نتذكر إلا ما يؤيد رأينا وننسى هذه الحيادية. في الحقيقة، تعتبر الذكريات من أقل الأدلة اعتماداً، ولكن هذا لموضوع آخر.

من الأمثلة على الانحياز التأكيدي هو اختبارات الشخصية، فعندما تختبر شخصيتك وتحصل على تقييم شخصيتك وتقرأ «أنت شخص ذكي» تتفق مع هذا الوصف لأنك لا تتذكر إلا الذكريات التي قلت فيها شيئاً ذكياً ولا تتذكر كل الأوقات التي لم تكن فيها ذكياً، أو عندما تقرأ «أنت شخص عاطفي» تتذكر علاقاتك العاطفية وتنسى العلاقات الأخرى. أيضاً بدون الانحياز التأكيدي تتلاشى كل المؤامرات، هل تبحث لسبب يثبت عدم ذهاب الإنسان إلى القمر؟ ستجده، هل تبحث لسبب يثبت أن هناك قوه غامضة تتحكم بدول العالم لأسباب خبيثة؟ ستجده، هل تبحث لسبب يثبت أن أمريكا هي من فجرت بمركز التجارة العالمي؟ ستجده. ومثال آخر من سوق الأسهم، عندما يرتفع سهمٌ ما ويستثمر فيه الكثيرون ويرتفع أكثر بسبب إقبال الكثير عليه ومن ثم يصل إلى أقصى حد لارتفاعه ويبدأ بالهبوط، تجد من أستثمر بهذا السهم بمبالغ كثيرة يكابرون بأن السهم سوف يرتفع مرةً أخرى، وعندما يهبط السهم أكثر يبدؤون بالبحث عن الخبير الذي يؤيد أرائهم، ومن ثم يستمرون بالتمسك بهذا السهم، بل يزداد تمسكهم بسبب قراءتهم لأراء هذا «الخبير» الذي نصحهم بعدم البيع، وفي النهاية تجدهم قد خسروا كل أموالهم.

نصف قرن من الدراسات أثبتت أن الانحياز التأكيدي هو من أسهل الفِخاخ التي تقع فيها عقولنا. في العلوم، تقترب للحقيقة عندما تبحث عن أدلة تنفي افتراضاتك، لماذا لا تستخدم هذه الطريقة في تبني أرائك.

كُتب في 27/12/2012